فصل: تفسير الآية رقم (102)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ‏}‏ تفريع على قوله عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنّى سَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 89‏]‏ أي أعرضوا وتركوا قربه، والمراد أنهم ذهبوا إلى معيدهم وتركوه، و‏{‏مُّدْبِرِينَ‏}‏ إما حال مؤكدة أو حال مقيدة بناء على أن المراد بسقيم مطعون أو أنهم توهموا مرضاً له عدوى مرض الطاعون أو غيره فإن المرض الذي له عدوى بزعم الأطباء لا يختص بمرض الطاعون فكأنه قيل‏:‏ فاعرضوا عنه هاربين مخافة العدوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ‏}‏ فذهب بخفية إلى أصنامهم التي يعبدونها، وأصل الروغان ميل الشخص في جانب ليخدع من خلفه فتجوز به عما ذكر لأنه المناسب هنا ‏{‏فَقَالَ‏}‏ للأصنام استهزاء ‏{‏أَلا تَأْكُلُونَ‏}‏ من الطعام الذي عندكم، وكان المشركون يضعون في أيام أعيادهم طعاماً لدى الأصنام لتبرك عليه، وأتى بضمير العقلاء لمعاملته عليه السلام إياهم معاملتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ‏}‏ بجوابي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏فَرَاغَ عَلَيْهِمْ‏}‏ فمال مستعلياً عليهم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرْباً‏}‏ مصدر لراغ عليهم باعتبار المعنى فإن المراد منه ضربهم أو لفعل مضمر هو مع فاعله حال من فاعله أي فراغ عليهم يضربهم ضرباً أو هو حال منه على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي ضارباً أو مفعول له أي لأجل ضرب‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏سفقا وصفقا‏}‏ أيضاً ‏{‏عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين‏}‏ أي باليد اليمين كما روى عن ابن عباس، وتقييد الضرب باليمين للدلالة على شدته وقوته لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما في الغالب وقوة الآلة تقتضي شدة الفعل وقوته أو بالقوة على أن اليمين مجاز عنها‏.‏

روى أنه عليه السلام كان يجمع يديه في الآلة التي يضربها بها وهي الفأس فيضربها بكمال قوته، وقيل المراد باليمين الحلف، وسمي الحلف يميناً إما لأن العادة كانت إذا حلف شخص لآخر جعل يمينه بيمينه فحلف أو لأن الحلف يقوي الكلام ويؤكده، وأريد باليمين قوله عليه السلام ‏{‏تالله لاكِيدَنَّ أصنامكم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 57‏]‏ والباء عليه للسببية أي ضرباً بسبب اليمين الذي حلفه قبل وهي على ما تقدم للاستعانة أو للملابسة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ‏}‏ أي إلى إبراهيم عليه السلام بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهمعن الكاسر وقولهمِ ‏{‏فأتوا بهم على أعين الناس‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 61‏]‏ ‏{‏يَزِفُّونَ‏}‏ حال من واو أقبلوا أي يسرعون من زف النعام أسرع لخلطه الطيران بالمشي ومصدره الزف والزفيف، وقيل‏:‏ ‏{‏يَزِفُّونَ‏}‏ أي يمشون على تؤدة ومهل من زفاف العروس إذا كانوا في طمأنينة من أن ينال أصنامهم بشيء لعزتها، وليس بشيء‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن وثاب‏.‏ والأعمش ‏{‏يَزِفُّونَ‏}‏ بضم الياء من أزف دخل في الزفيف فالهمزة ليس للتعدية أو حمل غيره على الزفيف فهي لها قاله الأصمعي‏.‏ وقرأ مجاهد أيضاً‏.‏ وعبد الله بن يزيد‏.‏ والضحاك ويحيى بن عبد الرحمن المقري‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏يَزِفُّونَ‏}‏ مضارع وزف بمعنى أسرع، قال الكسائي، والفراء‏:‏ لا نعرف وزف بمعنى زف وقد أثبته الثقات فلا يضر عدم معرفتهما‏.‏ وقرىء ‏{‏يَزِفُّونَ‏}‏ بالبناء للمفعول، وقرىء ‏{‏يَزِفُّونَ‏}‏ بسكون الزاي من زفاه إذا حداه كأن بعضهم يزفو بعضاً لتسارعهم إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ بعد أن أتوا به عليه السلام وجرى ما جرى من المحاورة على سبيل التوبيخ والإنكار عليهم ‏{‏أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ‏}‏ أي الذي تنحتونه من الأصنام فما موصولة حذف عائدها وهو الظاهر المتبادر، وجوز كونها مصدرية أي أتعبدوننحتكم، وتوبيخهم على عبادة النحت معأنهم يعبدون الأصنام وهي ليست نفس النحت للإشارة إلى أنهم في الحقيقة إنما عبدوا النحت لأن الأصنام قبله حجارة ولم يكونوا يعبدونها وإنما عبدوها بعد أن نحتوها ففي الحقيقة ما عبدوا إلا نحتهم، وفيه ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 95‏]‏ لتأكيد الإنكار والتوبيخ والاحتجاج على أنه لا ينبغي تلك العبادة، وما موصولة حذف عائدها أيضاً أي خلقكم وخلق الذي تعملونه أي من الأصنام كما هو الظاهر، وهي عبارة عن مواد وهي الجواهر الحجرية وصور حصلت لها بالنحت؛ وكون المواد مخلوقة له عز وجل ظاهر، وكون الصور والأشكال كذلك مع أنها بفعلهم باعتبار أن الأقدار على الفعل وخلق ما يتوقف عليه من الدواعي والأسباب منه تعالى، وكون الأصنام وهي ما سمعت معمولة لهم باعتبار جزئها الصوري فهو مع كونه معمولاً لهم مخلوق لله تعالى بذلك الاعتبار فلا إشكال‏.‏

وفي المتمة للمسألة المهمة تأليف الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة صريح الكلام دال على أن الله تعالى خالق للأصنام بجميع أجزائها التي منها الأشكال، ومعلوم أن الأشكال إنما حصلت بتشكيلهم فتكون الأشكال مخلوقة لله تعالى معمولة لهم لكون نحتهم وتشكيلهم عين خلق الله تعالى الأشكال بهم‏.‏

ولا استحالة في ذلك لأن العبد لا قوة له إلا بالله تعالى بالنص ومن لا قوة له إلا بغيره فالقوة لذلك الغير لإله فلا قوة حقيقة إلا لله تعالى، ومن المعلوم أنه لا فعل للعبد إلا بقوة فلا فعل له إلا بالله تعالى فلا فعل حقيقة إلا لله تعالى، وكل ما كان كذلك كان النحت والتشكيل عين خلق الله سبحانه الأشكال بهم وفيهم بالذات وغيره بالاعتبار فيكون المعمول عين المخلوق بالذات وغيره بلاعتبار فإن إيجاد الله عز وجل يتعلق بذات الفعل من حيث هو وفعل العبد بالمعنى المصدري يتعلق بالفعل بمعنى الحاصل بالمصدر من حيث كونه طاعة أو معصية أو مباحاً لكونه مكلفاً والله تعالى له الإطلاق ولا حاكم عليه سبحانه انتهى فافهم‏.‏

والزمخشري جعل أيضاً ما موصولة إلا أنه جعل المخلوق له تعالى هو الجواهر ومعمولهم هو الشكل والصورة إما على أن الكلام على حذف مضاف أي وما تعملون شكله وصورته، وإما على أن الشائع في الاستعمال ذلك فإنهم يقولون عمل النجار الباب والصائغ الخلخال والبناء البناء ولا يعنون إلا عمل الشكل بدون تقدير شكل في النظم كأن تعلق العمل بالشيء هو هذا التعلق لا تعلق التكوين، وهو مبني على اعتقاده الفاسد من أن أفعال العباد مخلوقة لهم، والاحتجاج في الآية على الأول بأن يقال‏:‏ إنه تعالى خلق العابد والمعبود مادة وصورة فكيف يعبد المخلوق المخلوق‏؟‏ وعلى الثاني بأنه تعالى خلق العابد ومادة المعبود فكيف يعبد المخلوق المخلوق على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود، والأول أظهر وعدل عن ضمير ‏{‏مَا تَنْحِتُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 95‏]‏ أو الإتيان به دون ما تعملون للإيذان بأن مخلوقية الأصنام لله عز وجل ليس من حيث نحتهم لها فقط بل من حيث سائر أعمالهم أيضاً من التصوير والتحلية والتزيين‏.‏

وفي «الكشف» فائدة العدول الدلالة على أن تأثيرهم فيها ليس النحت ثم العمل يقع على النحت والأثر الحاصل منه ولا يقع النحت على الثاني فلا بد من العدول لهذه النكتة وبه يتم الاحتجاج أي الذي قيل على اعتبار الزمخشري‏.‏ وجوز أن يكون الموصول عاماً للأصنام وغيرها وتدخل أولياً ولا يتأتى عليه حديث العدول، وقيل ما مصدرية والمصدر مؤول باسم المفعول ليطابق ‏{‏مَا تَنْحِتُونَ‏}‏ على ما هو الظاهر فيه ويتحد المعنى مع ما تقدم على احتمال الموصولية، وجوز بقاء المصدر على مصدريته والمراد به الحاصل بالمصدر أعني الأثر وكثيراً ما يراد به ذلك حتى قيل‏:‏ إنه مشترك بينه وبين التأثير والإيقاع أي خلقكم وخلق عملكم، واحتج بالآية على المعتزلة‏.‏ وتعقب بأنه لا يصح لأن الاستدلال بذلك على أن العابد والمعبود جميعاً خلق الله تعالى فكيف يعبد المخلوق مخلوقاً ولو قيل‏:‏ إن العابد وعمله من خلق الله تعالى لفات الملاءمة والاحتجاج، ولأن ‏{‏مَا‏}‏ في الأول موصولة فهي في الثاني كذلك لئلا ينفك النظم، وما قاله القاضي البيضاوي من أنه لا يفوت الاحتجاج بل أنه أبلغ فيه لأن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك، وأيد بأن الأسلوب يصير من باب الكناية وهو أبلغ من التصريح ولا فائدة في العدول عن الظاهر إلا هذا فيجب صوناً لكلام الله تعالى عن العبث تعقبه في «الكشف» بأنه لا يتم لأن الملازمة ممنوعة عند القوم ألا ترى أنهم معترفون بأن العبد وقدرته وإرادته من خلق الله تعالى ثم المتوقف عليهما وهو الفعل يجعلونه خلق العبد، والتحقيق أنه يفيد التوقف عليه تعالى وهم لا ينكرونه إنما الكلام في الإيجاد والأحداث ثم قال‏:‏ وأظهر منه أن يقال‏:‏ لأن المعمول من حيث المادة كانوا لا ينكرون أنه من خلق الله تعالى فقيل هو من حيث الصورة أيضاً خلقه فهو مخلوق من جميع الوجوه مثلكم من غير فرق فلم تسوونه بالخالق وما ازداد بفعلكم إلا بعد استحقاق عن العبادة ولما كان هذا المعنى في تقرير الزمخشري على أبلغ وجه كان هذا البناء متداعياً كيفما قرر، على أن فائدة العدول قد اتضحت حق الوضوح فبطل الحصر أيضاً، وقد قيل عليه‏:‏ إن المراد بالفعل الحاصل بالمصدر لأنه بالمعنى الآخر أعني الإيقاع من النسب التي ليست بموجودة عندهم، وتوقف الحاصل بالإيقاع على قدرة العبد وإرادته توقف بعيد بخلاف توقفه على الإيقاع الذي لا وجود له فيكون ما ذكره في معرض السند مجتمعاً مع المقدمة الممنوعة فلا يصلح للسندية، والمراد بمفعولهم أشكال الأصنام المتوقف على ذلك المعنى القائم بهم‏.‏

إذا كان ذاك بخلقه تعالى فلأن يكون الذي لا يقوم بهم بل بما يباينهم بخلقه تعالى أولى‏.‏

ولا مجال للخصم أن يمنع هذه الملازمة إذ قد أثبت خلق المتولدات مطلقاً للعباد بواسطة خلقهم لما يقوم بهم، وانتفاء الأول ملزوم لانتفاء الثاني فتأمل، وقال في «التقريب» انتصاراً لمن قال بالمصدرية‏:‏ إن الجواهر مخلوقة له تعالى وفاقاً والأعمال مخلوقة أيضاً لعموم الآية فكيف يعبد ما لا مدخل له في الخلق فدعوى فوات الاحتجاج باطلة وكذلك فك النظم والتبتير، وتعقبه في «الكشف» أيضاً فقال فيه‏:‏ إن المقدمة الوفاقية إذا لم يكن بد منها ولم تكن معلومة من هذا السياق يلزم فوات الاحتجاج، وأما الحمل على التغليب في الخطاب فتوجيه لا ترجيح والكلام في الثاني‏.‏

ثم قال‏:‏ وأما أن المصدرية أولى لئلا يلزم حذف الضمير فمعارض بأن الموصولة أكثر استعمالاً وهي أنسب بالسياق السابق على أنه لا بد من تقدير عملهم في المنحوت فيزداد الحذف‏.‏

واعترض بانا لا نسلم الأكثرية وكذا لا نسلم أنها أنسب بالسياق لما سمعت من أن الأسلوب على ذلك من باب الكناية وهو أبلغ من التصريح والتقدير المذكور ليس بلازم لجواز إبقاء الكلام على عمومه الشامل للمنحوت بالطريق الأولى أو يقدر بمصدر مضاف إضافة عهدية، وبعضهم جعلها موصولة كناية عن العمل لئلا ينفك النظم ويظهر احتجاج الأصحاب على خلق أفعال العباد‏.‏ وتعقبه أيضاً بأنه أفسد من الأول لما فيه من التعقيد وفوات الاحتجاج، وكون الموصول في الأول عبارة عن الأعيان وفي الثاني كناية عن المعاني وانفكاك النظم ليس لخصوص الموصولية والمصدرية بل لتباين المعنيين وهو باق‏.‏ و«صاحب الانتصاف» قال بتعين حملها على المصدرية لأنهم لم يعبدوا الأصنام من حيث كونها حجارة وإنما عبدوها من حيث أشكالها فهم في الحقيقة إنما عبدوا عملهم وبذلك تبتلج الحجة عليهم بأنهم وعملهم مخلوقان لله تعالى فكيف يعبد المخلوق مخلوقاً مثله مع أن المعبود كسب العابد وعمله، وأجاب عن حديث لزوم انفكاك النظم بأن لنا أن نحمل الأولى على المصدرية أيضاً فإنهم في الحقيقة إنما عبدوا نحتهم، وفي دعوى التعين بحث، وجوز كون ما الثانية استفهامية للإنكار والتحقير أي وأي شيء تعملون في عبادتكم أصناماً نحتموها أي لا عمل لكم يعتبر، وكونها نافية أي وما أنتم تعملون شيئاً في وقت خلقكم ولا تقدرون على شيء، ولا يخفى أن كلا الاحتمالين خلاف الظاهر بل لا ينبغي أن يحمل عليه التنزيل، وأظهر الوجوه كونها موصولة وتوجيه ذلك على ما يقوله الأصحاب ثم كونها مصدرية، والاستدلال بالآية عليه ظاهر، وقول «صاحب الكشف»‏:‏ والانصاف أن استدلال الأصحاب بهذه الآية لا يتم إن أراد به ترجيح احتجاج المعتزلة خارج عن دائرة الإنصاف، ثم إنها على تقدير أن لا تكون دليلاً لهم لا تكون دليلاً للمعتزلة أيضاً كما لا يخفى على المنصف، هذا ولما غلبهم إبراهيم عليه السلام بالحجة مالوا إلى الغلبة بقوة الشوكة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا‏}‏ حائطاً توقدون فيه النار، وقيل‏:‏ منجنيقاً‏.‏

‏{‏فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم‏}‏ في النار الشديد من الجحمة وهي شدة التأجج والاتقاد، واللام بدل عن المضاف إليه أو للعهد، والمراد جحيم ذلك البنيان التي هي فيه أو عنده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً‏}‏ سوأ باحتيال فإنه عليه السلام لما قهرهم بالحجة قصدوا تعذيبه بذلك لئلا يظهر للعامة عجزهم ‏{‏فجعلناهم الاسفلين‏}‏ الأذلين بإبطال كيدهم وجعله برهاناً ظاهراً ظهور نار القرى ليلاً على علم على علو شأنه عليه السلام حيث جعل سبحانه النار عليه برداً وسلاماً، وقيل‏:‏ أي الهالكين، وقيل‏:‏ أي المعذبين في الدرك الأسفل من النار والأول أنسب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى‏}‏ إلى حيث أمرني أو حيث أتجرد فيه لعبادته عز وجل جعل الذهاب إلى المكان الذي أمره ربه تعالى بالذهاب إليه ذهاباً إليه وكذا الذهاب إلى مكان يعبده تعالى فيه لا أن الكلام بتقدير مضاف، والمراد بذلك المكام الشام، وقيل مصر وكأن المراد إظهار اليأس من إيمانهم وكراهة البقاء معهم أي إني مفارقكم ومهاجر منكم إلى ربي ‏{‏سَيَهْدِينِ‏}‏ إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي‏.‏

والسين لتأكيد الوقوع لأنها في مقابلة لن المؤكد للنفي كما ذكره سيبويه، وبت عليه السلام القول لسبق وعده تعالى إياه بالهداية لما أمره سبحانه بالذهاب أو لفرط توكله عليه السلام أو للبناء على عادته تعالى معه وإنما لم يقل موسى عليه السلام مثل ذلك بل قال‏:‏ ‏{‏عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 22‏]‏ بصيغة التوقع قيل‏:‏ لعدم سبق وعد وعدم تقدم عادة واقتضاء مقامه رعاية الأدب معه تعالى بأن لا يقطع عليه سبحانه بأمر قبل وقوعه، وتقديمه على رعاية فرط التوكل ومقامات الأنبياء متفاوتة وكلها عالية، وقيل لأن موسى عليه السلام قال ما قال قبل البعثة وإبراهيم عليه السلام قال ذلك بعدها، وقيل لأن إبراهيم كان بصدد أمر ديني فناسبه الجزم وموسى كان بصدد أمر دنيوي فناسبه عدم الجزم، ومن الغريب ما قيل ونحا إليه قتادة أنه لم يكن مراد إبراهيم عليه السلام بقوله‏:‏ إني الخ الهجرة وإنما أراد بذلك لقاء الله تعالى بعد الإحراق ظاناً إنه يموت في النار إذا ألقى فيها وأراد بقوله‏:‏ ‏{‏سيهديني‏}‏ الهداية إلى الجنة، ويدفع هذا القول دعاؤه بالولد حيث قال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَهْدِينِ رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين‏}‏ بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة، والتقدير ولداً من الصالحين وحذف لدلالة الهبة عليه فإنها في القرآن وكلام العرب غلب استعمالها مع العقلاء في الأولاد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ أَخَاهُ هارون نَبِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 53‏]‏ من غير الغالب أو المراد فيه هبة نبوته لا هبة ذاته وهو شيء آخر

‏[‏بم ولقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏فبشرناه بغلام حَلِيمٍ‏}‏ فإنه ظاهر في أن ما بشر به عين ما استوهبه مع أن مثله إنما يقال عرفاً في حق الأولاد، ولقد جمع بهذا القول بشارات أنه ذكر لاختصاص الغلام به وأنه يبلغ أو أن البلوغ بالسن المعروف فإنه لازم لوصفه بالحليم لأنه لازم لذلك السن بحسب العادة إذ قلما يوجد في الصبيان سعة صدر وحسن صبر وإغضاء في كل أمر، وجوز أن يكون ذلك مفهوماً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غُلاَمٌ‏}‏ فإنه قد يختص بما بعد البلوغ وإن كان ورد عاماً وعليه العرف كما ذكره الفقهاء وأنه يكون حليماً وأي حلم مثل حلمه عرض عليه أبوه وهو مراهق الذبح فقال‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏ فما ظنك به بعد بلوغه، وقيل مانعت الله تعالى نبياً بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه عليهما السلام، وحالهما المذكورة فيما بعد تدل على ما ذكر فيهما‏.‏

‏[‏بم والفاء في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى‏}‏ فصيحة تعرب عن مقدر قد حذف تعويلاً على شهادة الحال وإيذاناً بعدم الحاجة إلى التصريح به لاستحالة التخلف أي فوهبناه له ونشأ فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه، و‏{‏مَّعَ‏}‏ ظرف للسعي وهي تدل على معنى الصحبة واستحداثها، وتعلقها بمحذوف دل عليه المذكور لأن صلة المصدر لا تتقدمه لأنه عند العمل مؤول بأن المصدرية والفعل ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول لأنه كتقدم جزء الشيء المرتب الأجزاء عليه أو لضعفه عن العمل فيه بحث، أما أولاً‏:‏ فلأن التأويل المذكور على المشهور في المصدر المنكر دون المعرف، وأما ثانياً‏:‏ فلأنه إذا سلم العموم فليس كل ما أول بشيء حكمه حكم ما أول به، وأما ثالثاً‏:‏ فلأن المقدم هنا ظرف وقد اشتهر أنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره‏.‏

وصرحوا بأنه يكفيه رائحة الفعل وبهذا يضعف حديث المنع لضعف العامل عن العمل فالحق أنه لا حاجة في مثل ذلك إلى التقدير معرفاً كان المصدر أو منكراً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ وهو الذي ارتضاه الرضى وقال به العلامة الثاني، واختار «صاحب الفرائد» كونها متعلقة بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏السعى‏}‏ أي فلما بلغ السعي حال كون ذلك السعي كائناً معه، وفيه أن السعي معه معناه اتفاقهما فيه فالصحبة بين الشخصين فيه، وما قدره يقتضي الصحبة بين السعي وإبراهيم عليه السلام ولا يطابق المقام، وجوز تعلقه ببلغ، ورد بأنه يقتضي بلوغهما معاً حد السعي لما سمعت من معنى مع وهو غير صحيح، وأجيب بأن مع على ذلك لمجرد الصحبة على أن تكون مرادفة عند نحو فلان يتغنى مع السلطان أي عنده ويكون حاصل المعنى بلغ عند أبيه وفي صحبته متخلقاً بأخلاقه متطبعاً بطباعه ويستدعي ذلك كمال محبة الأب إياه، ويجوز على هذا أن تتعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل ‏{‏بَلَغَ‏}‏ ومن مجيء مع لمجرد الصحبة قوله تعالى حكاية عن بلقيس‏:‏ ‏{‏أَسْلَمْتُ مَعَ سليمان لِلَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏ فلتكن فيما نحن فيه مثلها في تلك الآية‏.‏ وتعقب بأن ذاك معنى مجازي والحمل على المجاز هنالك للصارف ولا صارف فيما نحن فيه فليحمل على الحقيقة على أنه لا يتعين هنالك أن تكون لمعية الفاعل لجواز أن يراد أسلمت لله ولرسوله مثلاً، وتقديم ‏{‏مَّعَ‏}‏ إشعاراً منها بأنها كانت تظن أنها على دين قبل وأنها مسلمة لله تعالى فيما كانت تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يعتد به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد، قال «صاحب الكشف»‏:‏ وهذا معنى صحيح حمل الآية عليه أولى وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بد من محذوف نحو مع بلوغ دوعته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المقيد ومطلق الجمع معلوم بالضرورة، وزعم بعض أنه لا مانع من إرادة الحقيقة واستحداث إسلامهما معاً على معنى أنه عليه السلام وافقها أو لقنها وليس بشيء كما لا يخفى‏.‏

وقيل يراد بالسعي على تقدير تعلق مع ببلغ المسعى وهو الجبل المقصود إليه بالمشي وهو تكلف لا يصار إليه‏.‏

وبالجملة الأولى تعلقها بالسعي، والتخصيص لأن الأب أكمل في الرفق وبالاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أو أنه أو لأنه عليه السلام استوهبه لذلك، وفيه على الأول بيان أوانه وأنه في غضاضة عوده كان فيه ما فيه من رصانة العقل ورزانة الحلم حتى أجاب بما أجاب، وعلى الثاني بيان استجابة دعائه عليه السلام وكان للغلام يومئذ ثلاث عشرة سنة والولد أحب ما يكون عند أبيه في سن يقدر فيه على إعانة الأب وقضاء حاجة ولا يقدر فيه على العصيان ‏{‏قَالَ يَاءادَمُ بَنِى إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ‏}‏ يحتمل أنه عليه السلام رأى في منامه أنه فعل ذبحه فحمله على ما هو الأغلب في رؤيا الأنبياء عليهم السلام من وقوعها بعينها، ويحتمل أنه رأى ما تأويل ذلك لكن لم يذكره وذكر التأويل كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة، وقيل إنه رأى معالجة الذبح ولم ير إنهار الدم فأني أذبحك إني أعالج ذبحك، ويشعر صنيع بعضهم اختيار أنه عليه السلام أتى في المنام فقيل له اذبح ابنك ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة، وفي رواية أنه رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك فلما أصبح روأ في ذلك وفكر من الصباح إلى الرواح أمن الله تعالى هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأي مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فمن ثم سمي يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر، وقيل إن الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله فلما ولد وبلغ حد السعي معه قيل له أوف بنذرك، ولعل هذا القول كان في المنام وإلا فما يصنع بقوله‏:‏ ‏{‏إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ‏}‏ وفي كلام التوراة التي بأيدي اليهود اليوم ما يرمز إلى أن الأمر بالذبح كان ليلاً فإنه بعد أن ذكر قول الله تعالى له عليه السلام خذ ابنك وامض إلى بلد العبادة وأصعده ثم قرباناً على أحد الجبال الذي أعرفك به قيل فأدلج إبراهيم بالغداة الخ فالأمر إما مناماً وإما يقطة لكن وقع تأكيداً لما في المنام إذ لا محيص عن الايمان بما قصه الله تعالى علينا فيما أعجز به الثقلين من القرآن والحزم الجزم بكونه في المنام لا غير إذ لا يعول على ما في أيدي اليهود وليس في الأخبار الصحيحة ما يدل على وقوعه يقطة أيضاً‏.‏

ولعل السر في كونه مناماً لا يقظة أن تكون المبادرة إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص‏.‏

وقيل‏:‏ كان ذلك في المنام دون اليقظة ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومناماً سواء في الصدق، والأول أولى، والتأكيد لما في تحقق المخبر به من الاستبعاد، وصيغة المضارع في الموضعين قيل لاستحضار الصورة الماضية لنوع غرابة، وقيل‏:‏ في الأول لتكرر الرؤية وفي الثاني للاستحضار المذكور أو لتكرر الذبح حسب تكرر الرؤيا أو للمشاكلة؛ ومن نظر بعد ظهر له غير ذلك‏.‏

‏{‏فانظر مَاذَا ترى‏}‏ من الرأي؛ وإنما شاوره في ذلك وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله عز وجل فيثبت قدمه إن جزع ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون عليه ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله تعالى قبل نزوله وليكون سنة في المشاورة، فقد قيل‏:‏ لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك، وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏مَاذَا ترى‏}‏ بضم التاء وكسر الراء خالصة أي ما الذي تريني إياه من الصبر وغيره أو أي شيء تريني على أن ما مبتدأ وذا موصول خبره ومفعولي ترى محذوفان أو ماذا كالشيء الواحد مفعول ثان لترى والمفعول الأول محذوف، وقرىء ‏{‏مَاذَا ترى‏}‏ بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول أي ماذا تريك نفسك من الرأي، و‏{‏أَنظُرْ‏}‏ في جميع القراءات معلقة عن العمل وفي ‏{‏مَاذَا‏}‏ الاحتمالان فلا تغفل‏.‏

‏{‏قَالَ يَاءادَمُ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ‏}‏ أي الذي تؤمر به فحذف الجار والمجرور دفعة أو حذف الجار أولاً فعدى الفعل بنفسه نحو أمرتك الخير ثم حذف المجرور بعد أن صار منصوباً ثانياً، والحذف الأول شائع مع الأمر حتى كاد يعد متعدياً بنفسه فكأنه لم يجتمع حذفان أو افعل أمرك على أن ما مصدرية والمرادب المصدر الحاصل بالمصدر أي المأمور به، ولا فرق في جواز إرادة ذلك من المصدر بين أن يكون صريحاً وأن يكون مسبوكاً‏.‏

وإضافته إلى ضمير إبراهيم إضافة إلى المفعول ولا يخفى بعد هذا الوجه، وهذا الكلام يقتضي تقدم الأمر وهو غير مذكور فإما أن يكون فهم من كلامه عليه السلام أنه رأى أنه يذبحه مأموراً أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر، وصيغة المضارع للإيذان بغرابة ذلك مثلها في كلام إبراهيم على وجه وفيه إشارة إلى أن ما قاله لم يكن إلا عن حلم غير مشوب بجهل بحال المأمور به، وقيل‏:‏ للدلالة على أن الأمر متعلق به متوجه إليه مستمر إلى حين الامتثال به، وقيل‏:‏ لتكرر الرؤيا، وقيل‏:‏ جىء بها لأنه لم يكن بعد أمر وإنما كانت رؤيا الذبح فأخبره بها فعلم لعلمه بمقام أبيه وأنه ممن لا يجد الشيطان سبيلاً بإلقاء الخيالات الباطلة إليه في المنام أنه سيكون ذلك ولا يكون إلا بأمر إلهي فقال له افعل ما تؤمر بعد من الذبح الذي رأيته في منامك، ولما كان خطاب الأب ‏{‏أَوْ بَنِى‏}‏ على سبيل الترجم قال هو ‏{‏يا أبت‏}‏ على سبيل التوقير والتعظيم ومع ذلك أتى بجواب حكيم لأنه فوض الأمر حيث استشاره فأجاب بأنه ليس مجازها وإنما الواجب إمضاء الأمر‏.‏

‏{‏سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصابرين‏}‏ على قضاء الله تعالى ذبحاً كان أو غيره، وقيل‏:‏ على الذبح والأول أولى للعموم ويدخل الذبح دخولاً أولياً، وفي قوله‏:‏ ‏{‏مّنَ الصابرين‏}‏ دون صابراً وإن كانت رؤوس الآي تقتضي ذلك من التواضع ما فيه، قيل ولعله وفق للصبر ببركته مع بركة الاستثناء وموسى عليه السلام لما لم يسلك هذا المسلك من التواضع في قوله‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 69‏]‏ حيث لم ينظم نفسه الكريمة في سلك الصابرين بل أخرج الكلام على وجه لا يشعر بوجود صابر سواه لم يتيسر له الصبر مع أنه لم يهمل أمر الاستثناء‏.‏ وفيه أيضاً إغراء لأبيه عليه السلام على الصبر لما يعلم من شفقته عليه مع عظم البلاء حيث أشار إلى أن لله تعالى عباداً صابرين وهي زهرة ربيع لا تتحمل الفرك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا‏}‏ أي استسلما وانقادا لأمر الله تعالى فالفعل لازم أو سلم الذبيح نفسه وإبراهيم ابنه على أنه متعد والمفعول محذوف‏.‏

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن عباس‏.‏ وعبد الله‏.‏ ومجاهد‏.‏ والضحاك‏.‏ وجعفر بن محمد‏.‏ والأعمش‏.‏ والثوري ‏{‏سلاما‏}‏ وخرجت على ما سمعت، ويجوز أن يكون المعنى فوضاً إليه تعالى في قضائه وقدره، وقرىء ‏{‏استسلما‏}‏ وأصل الأفعال الثلاثة سلم هذا لفلان إذا خلص له فإنه سلم من أن ينازع فيه ‏{‏أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏}‏ صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض، وأصل التل الرمي على التل وهو التراب المجتمع ثم عمم في كل صرع، والجبين أحد جانبي الجبهة وشذ جمعه على أجبن وقياسه في القلة أجبنة ككثيب وأكثبة وفي الكثرة جبنان وجبن ككثبان وكثب، واللام لبيان ما خر عليه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 107‏]‏ وقوله‏:‏ وخر صريعاً لليدين وللفم *** وليست للتعدية، وقيل المراد كبه على وجهه وكان ذلك بإشارة منه‏.‏ أخرج غير واحد عن مجاهد أنه قال لأبيه‏:‏ لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي عسى أن ترحمني فلا تجهز علي اربط يدي إلى رقبتي ثم ضع وجهي للأرض ففعل فكان ما كان، ولا يخفى أن إرادة ذلك من الآية بعيد، نعم لا يبعد أن يكون الذبيح قال هذا‏.‏

وفي الآثار حكاية أقوال غير ذلك أيضاً، منها ما في خبر للسدي أنه قال لأبيه عليهما السلام‏:‏ يا أبت اشدد رباطي حتى لا اضطرب واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء فتراه أمي فتحزن وأسرع مر السكين على حلقي فيكون أهون للموت علي فإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني فأقبل عليه إبراهيم يقبله‏.‏ وكل منهما يبكي، ومنها ما في حديث أخرجه أحمد‏.‏ وجماعة عن ابن عباس أنه قال لأبيه وكان عليه قميص أبيض يا أبت ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه فعالجه ليخلعه فكان ما قص الله عز وجل‏.‏

وكان ذلك عند الصخرة التي بمنى، وعن الحسن في الموضع المشرف على مسجد منى، وعن الضحاك في المنحر الذي ينحر فيه اليوم، وقيل كان ببيت المقدس وحكي ذلك عن كعب، وحكى الإمام مع هذا القول أنه كان بالشام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104 - 105‏]‏

‏{‏وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏104‏)‏ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

* قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا‏}‏ قيل ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى بذلك، و‏{‏ءانٍ‏}‏ مفسرة بمعنى أي وقرأ زيد بن علي قد صدقت بحذفها، وقرىء ‏{‏صَدَّقْتَ‏}‏ بالتخفيف، وقرأ فياض ‏{‏الريا‏}‏ بكسر الراء والإدغام، وتصديقه عليه السلام الرؤيا توفيته حقها من العمل وبذل وسعه في إيقاعها وذلك بالعزم والإتيان بالمقدمات ولا يلزم فيه وقوع ما رآه بعينه، وقيل هو إيقاع تأويلها وتأويلها ما وقع، ويفهم من كلام الإمام أنه الاعتراف بوجوب العمل بها، ولا يدل على الإتيان بكل ما رآه في المنام، وهل أمر عليه السلام الشفرة على حلقه أم لا قولان ذهب إلى الثاني منهما كثير من الأجلة، وقد أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أنه عليه السلام لما أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه نودي من خلفه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، وأخرج هو‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في «شعب الإيمان» عنه أنه عالج قميصه ليخلعه فنودي بذلك‏.‏

وأخرج ابن المنذر‏.‏ والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه أيضاً فلما أدخل يده ليذبحه فلم يحمل المدية حتى نودي أن يا أبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده، وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وغيره عن مجاهد فلما أدخل يده ليذبحه نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده ورفع رأسه فرأى الكبش ينحط إليه حتى وقع عليه فذبحه، وفي رواية أخرى عنه أخرجها عبد بن حميد أيضاً‏.‏ وابن المنذر أنه أمر السكين فانقلبت، وإلى عدم الإمرار ذهبت اليهود أيضاً لما في توراتهم مد إبراهيم يده فأخذ السكين فقال له ملاك الله من السماء قائلاً‏:‏ يا إبراهيم يا إبراهيم قال‏:‏ لبيك قال‏:‏ لا تمد يدك إلى الغلام ولا تصنع به شيئاً، وذهب إلى الأول طائفة فمنهم من قال‏:‏ أنه أمرها ولم تقطع مع عدم المانع لأن القطع بخلق الله تعالى فيها أو عندها عادة وقد لا يخلق سبحانه، ومنهم من قال‏:‏ أنه أمرها ولم تقطع مع عدم المانع لأن القطع بخلق الله تعالى فيها أو عندها عادة وقد لا يخلق سبحانه، ومنهم من قال‏:‏ أنه أمرها ولم تقطع لمانع، فقد أخرج سعيد بن منصور‏.‏ وابن المنذر عن عطاء بن يسار أنه عليه السلام قام إليه بالشفرة فبرك عليه فجعل الله تعالى ما بين لبته إلى منحره نحاساً لا تؤثر فيه الشفرة، وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن السدي أنه عليه السلام جر السكين على حلقه فلم ينحر وضرب الله تعالى على حلقه صفيحة من نحاس، وأخرج الخطيب في تالي التلخيص عن فضيل بن عياض قال‏:‏ أضجعه ووضع الشفرة فقلبها جبريل عليه السلام، وأخرج الحاكم بسند فيه الواقدي عن عطاء أنه نحر في حلقه فإذا هو قد نحر في نحاس فشحذ الشفرة مرتين أو ثلاثاً بالحجر، وضعف جميع ذلك‏.‏

وقيل إنه عليه السلام ذبح لكن كان كلما قطع موضعاً من الحق أوصله الله تعالى، وزعموا ورود ذلك في بعض الأخبار ولا يكاد يصح، وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا المقام من الكلام، وجواب لما محذوف مقدر بعد ‏{‏قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا‏}‏ أي كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به المقال من استبشارهما وشكرهما الله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق لما لم يوفق غيرهما لمثله وإظهار فضلهما مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك؛ وهو أولى من تقدير فإذا ونحوه، وقدره بعض البصريين بعد ‏{‏وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103‏]‏ أي أجز لنا أجرهما، وعن الخليل‏.‏ وسيبويه تقديره قبل ‏{‏وَتَلَّهُ‏}‏ قال في «البحر»‏:‏ والتقدير فلما أسلما أسلما وتله، وقال ابن عطية‏:‏ وهو عندهم كقول امرىء القيس‏:‏ فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى *** أي أجزنا وانتحى، وهو كما ترى، وقال الكوفيون‏:‏ الجواب مثبت وهو ‏{‏وناديناه‏}‏ على زيادة الواو، وقالت فرقة‏:‏ هو و‏{‏تله‏}‏ على زيادتها أيضاً، ولعل الأولى ما تقدم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏العالمين إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ ابتداء كلام غير داخل في النداء وهو تعليل لإفراج تلك الشدة المفهوم من الجواب المقدر أو من الجواب المذكور أعني نادينا الخ على القول بأنه الجواب أو منه وإن لم يكن الجواب والعلة في المعنى إحسانهما، وكونه تعليلاً لما انطوى عليه الجواب من الشكر ليس بشيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين‏}‏ أي الابتلاء والاختبار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره أو المحنة البينة وهي المحنة الظاهرة صعوبتها وما وقع لا شيء أصعب منه ولا تكاد تخفى صعوبته على أحد ولله عز وجل أن يبتلي من شاء بما شاء وهو سبحانه الحكيم الفعال لما يريد‏.‏ ولعل هذه الجملة لبيان كونهما من المحسنين، وقيل لبيان حكمة ما نالهما، وعلى التقديرين هي مستأنفة استئنافاً بيانياً فليتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏وفديناه بِذِبْحٍ‏}‏ بحيوان يذبح بدله ‏{‏عظِيمٌ‏}‏ قيل أي عظيم الجثة سمين وهو كبش أبيض أقرن أعين وفي رواية أملح بدل أبيض، وعن الحسن أنه وعل أهبط عن ثبير، والجمهور على الأول ووافقهم الحسن في رواية رواها عنه ابن أبي حاتم وفيها أن اسمه حرير، واليهود على أنه كبش أيضاً‏.‏ وفسر المعظم العظيم بعظيم القدر وذلك على ما روي عن ابن عباس لأنه الكبش الذي قربه هابيل فتقبل منه وبقي يرعى في الجنة إلى يوم هذا الفداء، وفي رواية عنه وعن ابن جبير أنهما قالا‏:‏ عظمه كونه من كباش الجنة رعى فيها أربعين خريفاً‏.‏

وقال مجاهد وصف بالعظم لأنه متقبل يقيناً، وقال الحسن بن الفضل‏:‏ لأنه كان من عند الله عز وجل، وقال أبو بكر الوراق‏:‏ لأنه لم يكن عن نسل بل عن التكوين؛ وقال عمرو بن عبيد‏:‏ لأنه جرت السنة به وصار ديناً باقياً آخر الدهر، وقيل لأنه فدى به نبي وابن نبي، وهبوطه من ثبير كما قال الحسن في الوعل وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس‏.‏

وفي رواية عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه وجده عليه السلام قد ربط بسمرة في أصل ثبير‏.‏ وعن عطاء بن السائب أنه قال‏:‏ كنت قاعداً بالمنحر فحدثني قرشي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ إن الكبش نزل على إبراهيم في هذا المكان‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس أنه خرج عليه كبش من الجنة قد رعى فيها أربعين خريفاً فأرسل إبراهيم عليه السلام ابنه واتبعه فرماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الأولى فأفلت ورماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الوسطى فأفلت ورماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الكبرى فأتى به المنحر من منى فذبح قيل وهذا أصل سنية رمي الجمار، والمشهور أن أصل السنية رمي الشيطان هناك ففي خبر عن قتادة أن الشيطان أراد أن يصيب حاجته من إبراهيم وابنه يوم أمر بذبحه فتمثل بصديق له فأراد أن يصده عن ذلك فلم يتمكن فتعرض لابنه فلم يتمكن فأتى الجمرة فانتفخ حتى سد الوادي ومع إبراهيم ملك فقال له‏:‏ ارم يا إبراهيم فرمى بسبع حصيات يكبر في أثر كل حصاة فافرج له عن الطريق ثم انطلق حتى أتى الجمرة الثانية فسد الوادي أيضاً فقال الملك‏:‏ ارم يا إبراهيم فرمى كما في الأولى وهكذا في الثالثة، وظاهر الآية أن الفداء كان بحيوان واحد وهو المعروف‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس أنه فدى بكبشين أملحين أقرنين أعينين ولا أعرف له صحة، ويراد بالذبح عليه لو صح الجنس، والفادي على الحقيقة إبراهيم عليه السلام، وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏فديناه‏}‏ على التجوز في الفداء أي أمرنا أو أعطينا أو في إسناده إليه تعالى، وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية أيضاً، وفائدة العدول عن الأصل التعظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108 - 109‏]‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏108‏)‏ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏الباقين وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخرين سلام على إبراهيم‏}‏ سبق ما يعلم منه بيانه عند تفسير نظيره في آخر قصة نوح، ولعل ذكر ‏{‏في العالمين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 79‏]‏ هناك وعدم ذكره هنا لما أن لنوح عليه السلام من الشهرة لكونه كآدم ثان للبشر ونجاة من نجا من أهل الطوفان ببركته ما ليس لإبراهيم عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ ذلك إشارة إلى إبقاء ذكره الجميل فيما بين الأمم لا إلى ما يشير إليه فيما سبق فلا تكرار وطرح هنا ‏{‏أَنَاْ‏}‏ قيل مبالغة في دفع توهم اتحاده مع ما سبق كيف وقد سيق الأول تعليلاً لجزاء إبراهيم وابنه عليهما السلام بما أشير إليه قبل وسيق هذا تعليلاً لجزاء إبراهيم وحده بما تضمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ‏}‏ الخ وما ألطف الحذف هنا اقتصاراً حيث كان فيما قبله ما يشبه ذلك من عدم ذكر الابن والاقتصار على إبراهيم‏.‏

وقيل لعل ذلك اكتفاءً بذكر ‏{‏أَنَاْ‏}‏ مرة في هذه القصة، وقال بعض الأجلة‏:‏ إنه للإشارة إلى أن قصة إبراهيم عليه السلام لم تتم فإن ما بعد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 112‏]‏ الخ من تكملة ما يتعلق به عليه السلام بخلاف سائر القصص التي جعل ‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 80، 105‏]‏ مقطعاً لها فإن ما بعد ليس مما يتعلق بما قبل ومع هذا لم تخل القصة من مثل تلك الجملة بجميع كلماتها وسلك فيها هذا المسلك اعتناءً بها فتأمل

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين‏}‏ الكلام فيه كما تقدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً‏}‏ حال من إسحاق، وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّنَ الصالحين‏}‏ وفي ذلك تعظيم شأن الصلاح، وفي تأخيره إيماءً إلى أنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل، والمقصود منهما الإتيان بالأفعال الحسنة السديدة وهو في الاستعمال يختص بها‏.‏

وجوز كون ‏{‏مّنَ الصالحين‏}‏ حالاً وكون ‏{‏نَبِيّاً‏}‏ حالاً من الضمير المستتر فيه، وقدم في اللفظ للاهتمام ولئلا تختل رؤوس الآي وفيه من البعد ما فيه، على أن في جواز تقديم الحال مطلقاً أو إطراده في مثل هذا التركيب كلاماً لا يخفى على من راجع الألفية وشروحها وفيه ما فيه بعد، وجوز أيضاً كونه في موضع الصفة لنبياً والكلام على الأول وهو الذي عليه الجمهور أمدح كما لا يخفى، والمراد كونه نبياً وكونه من الصالحين في قضاء الله تعالى وتقديره أي مقضياً كونه نبياً مقضياً كونه من الصالحين وإن شئت فقل مقدراً ولا يكونان بذلك من الحال المقدرة التي تذكر في مقابلة المقارنة بل هما بهذا الاعتبار حالان مقارنان للعامل وهو فعل البشارة أو شيء آخر محذوف أي بشرناه بوجود إسحاق نبياً الخ، وأوجب غير واحد تقدير ذلك معللاً بأن البشارة لا تتعلق بالأعيان بل بالمعاني‏.‏ وتعقب بأنه إن أريد أنها لا تستعمل إلا متعلقة بالأعيان فالواقع خلافه ك ‏{‏بشر أحدهم بالأنثى‏}‏، ‏[‏النحل‏:‏ 58‏]‏ فإن قيل إنما يصح بتقدير ولادة ونحوه من المعاني فهو محل النزاع فلا وجه له، والذي يميل إليه القلب أن المعنى على إرادة ذلك، وربما يدعى أن معنى البشارة تستدعي تقدير معنى من المعاني، وقيل هما حالان مقدران كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوها خالدين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ وفيه بحث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏وباركنا عَلَيْهِ‏}‏ أي على إبراهيم عليه السلام ‏{‏وعلى إسحاق‏}‏ أي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا بأن كثرنا نسلهما وجعلنا منهم أنبياء ورسلاً‏.‏

وقرىء ‏{‏بركنا‏}‏ بالتشديد للمبالغة ‏{‏إسحاق وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ‏}‏ في عمله أو على نفسه بالإيمان والطاعة‏.‏

‏{‏وظالم لّنَفْسِهِ‏}‏ بالكفر والمعاصي ويدخل فيها ظلم الغير ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر ظلمه، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في الأعقاب لا يعود على الأصول بنقيصة وعيب، هذا وفي الآيات بعد أبحاث ‏{‏الاول‏}‏ أنهم اختلفوا في الذبيح فقال على ما ذكره الجلال السيوطي في رسالته القول الفصيح في تعيين الذبيح علي‏.‏ وابن عمر، وأبو هريرة‏.‏ وأبو الطفيل‏.‏ وسعيد بن جبير‏.‏ ومجاهد‏.‏ والشعبي‏.‏ ويوسف بن مهران‏.‏ والحسن البصري‏.‏ ومحمد بن كعب القرظي‏.‏ وسعيد بن المسيب‏.‏ وأبو جعفر الباقر‏.‏ وأبو صالح‏.‏ والربيع بن أنس‏.‏ والكلبي‏.‏ وأبو عمرو بن العلاء‏.‏ وأحمد بن حنبل وغيرهم أنه إسماعيل عليه السلام لا إسحاق عليه السلام وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ورجحه جماعة خصوصاً غالب المحدثين وقال أبو حاتم‏:‏ هو الصحيح، وفي الهدى أنه الصواب عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وسئل أبو سعيد الضرير عن ذلك فأنشد‏:‏

إن الذبيح هديت إسماعيل *** نص الكتاب بذاك والتنزيل

شرف به خص الإله نبينا *** وأتى به التفسير والتأويل

إن كنت أمته فلا تنكر له *** شرفاً به قد خصه التفضيل

وفي دعواه النص نظر وهو المشهور عند العرب قبل البعثة أيضاً كما يشعر به أبيات نقلها الثعالبي في تفسير عن أمية بن أبي الصلت واستدل له بأنه الذي وهب لإبراهيم عليه السلام أثر الهجرة وبان البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام، والظاهر التغاير فيتعين كونه إسماعيل وبأنه بشر بأن يوجد وينبأ فلا يجوز ابتلاء إبراهيم عليه السلام بذبحه لأنه علم أن شرط وقوعه منتف، والجواب بأن الأول بشارة بالوجود وهذا بشارة بالنبوة ولكن بعد الذبح قال صاحب الكشف ضعيف لأن نظم الآية لا يدل على أن البشارة بنبوته بل على أن البشارة بأمر مقيد بالنبوة فإما أن يقدر بوجود إسحاق بعد الذبح ولا دلالة في اللفظ عليه وإما أن يقدر الوجود مطلقاً وهو المطلوب، فإن قلت‏:‏ يكفي الدلالة تقدم البشارة بالوجود أولاً قلت‏:‏ ذاك عليك لا لك ومن يسلم أن المتقدم بشارة بإسحاق حتى يستتب لك المرام وبأن البشارة به وقعت مقرونة بولادة يعقوب منه على ما هو الظاهر في قوله تعالى في هود‏:‏ ‏{‏فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏ ومتى بشر بالولد وولد الولد دفعة كيف يتصور الأمر بذبح الولد مراهقاً قبل ولادة ولده، ومنع كونه إذ ذاك مراهقاً لجواز أن يكون بالغاً كما ذهب إليه اليهود قد ولد له يعقوب وغيره مكابرة لا يلتفت إليها وبأنه تعالى وصف إسماعيل عليه السلام بالصبر في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏وإسماعيل وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل كُلٌّ مّنَ الصابرين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 85‏]‏ وبأنه عز وجل وصفه بصدق الوعد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏ ولم يصف سبحانه إسحاق بشيء منهما فهو الأنسب دونه بأن يقول القائل‏:‏ ‏{‏قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏ المصدق قوله بفعله وبأن ما وقع كان بمكة وإسماعيل هو الذي كان فيها وبأن قرني الكبش كانا معلقين في الكعبة حتى احترقا معها أيام حصار الحجاج بن الزبير رضي الله تعالى عنه وكانا قد توارثهما قريش خلفاً عن سلف، والظاهر أن ذاك لم يكن منهم إلا للفخر ولا يتم لهم إذا كان الكبش فدى لإسحاق دون أبيهم إسماعيل، وبأنه روى الحاكم في «المستدرك» وابن جرير في تفسيره‏.‏ والأموي في مغازيه‏.‏ والخلعي في فوائده من طريق إسماعيل بن أبي كريمة عن عمر بن أبي محمد الخطابي عن العتبي عن أبيه عن عبد الله بن سعيد الصنابحي قال‏:‏ حضرنا مجلس معاوية فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق أيهما الذبيح‏؟‏ فقال بعض القوم‏:‏ إسماعيل وقال بعضهم‏:‏ بل إسحاق فقال معاوية‏:‏ على الخبير سقطتم كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه أعرابي فقال‏:‏ يا رسول الله خلفت الكلأ يابساً والماء عابساً هلك العيال وضاع المال فعد على مما أفاء الله تعالى عليك يا ابن الذبيحين فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه فقال القوم‏:‏ من الذبيحان يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله تعالى إن سهل أمرها أن ينحر بعض بنيه فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فأراد أن ينحره فمنعه أخواله بنو مخزوم وقالوا‏:‏ أرض ربك وافد ابنك ففداه بمائة ناقة قال معاوية‏:‏ هذا واحد والآخر إسماعيل وبأنه ذكر في التوراة أن الله تعالى امتحن إبراهيم فقال له‏:‏ يا إبراهيم فقال‏:‏ لبيك قال‏:‏ خذ ابنك وحيدك الذي تحبه وامض إلى بلد العبادة وأصعده ثم قربانا على أحد الجبال الذي أعرفك به فإن معنى وحيدك الذي ليس لك وغيره لا يصدق ذلك على إسحاق حين الأمر بالذبح لأن إسماعيل كان موجوداً إذ ذاك لأنه ولد لإبراهيم على ما في التوراة وهو ابن ست وثمانين سنة وولد إسحاق على ما فيها أيضاً وهو ابن مائة سنة، وأيضاً قوله تعالى الذي تحبه أليق بإسماعيل لأن أول ولد له من المحبة في الأغلبة ما ليس لمن بعده من الأولاد، ويعلم مما ذكر أن ما في التوراة الموجودة بأيدي اليهود اليوم من ذكر هو إسحاق بعد الذي تحبه من زياداتهم وأباطيلهم التي أدرجوها في كلام الله تعالى إذ لا يكاد يلتئم مع ما قبله، وأجاب بعض اليهود عن ذلك بأن إطلاق الوحيد على إسحاق لأن إسماعيل كان إذ ذاك بمكة وهو تحريف وتأويل باطل لأنه لا يقال الوحيد وصفاً للابن إلا إذا كان واحداً في البنوة ولم يكن له شريك فيها، وقال لي بعض منهم‏:‏ إن إطلاق ذلك عليه لأنه كان واحداً لأمه ولم يكن لها ابن غيره فقلت‏:‏ يبعد ذلك كل التبعيد إضافته إلى ضمير إبراهيم عليه السلام، ويؤيد ما قلنا ما قاله ابن إسحاق ذكر محمد بن كعب أن عمر بن عبد العزيز أرسل إلى رجل كان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه وكان من علمائهم فسأله أي ابن إبراهيم أمر بذبحه‏؟‏ فقال إسماعيل‏:‏ والله يا أمير المؤمنين وأن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، وذكر ابن كثير أن في بعض نسخ التوراة بكرك بدل وحيدك وهو أظهر في المطلوب، وقيل‏:‏ هو إسحاق ونسبه القرطبي للأكثرين وعزاه البغوي‏.‏

وغيره إلى عمر‏.‏ وعلي‏.‏ وابن مسعود‏.‏ والعباس‏.‏ وعكرمة‏.‏ وسعيد بن جبير‏.‏ ومجاهد‏.‏ والشعبي‏.‏ وعبيد بن عمير‏.‏ وأبي ميسرة‏.‏ وزيد بن أسلم‏.‏ وعبد الله بن شقيق‏.‏ والزهري‏.‏ والقاسم بن يزيد‏.‏ ومكحول‏.‏ وكعب‏.‏ وعثمان بن حاضر‏.‏ والسدي‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وأبي الهذيل‏.‏ وابن سابط‏.‏ ومسروق‏.‏ وعطاء‏.‏ ومقاتل وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس واختاره أبو جعفر بن جرير الطبري وجزم به القاضي عياض في الشفاء‏.‏ والسهيلي في التعريف والأعلام واستدل له بأنه لم يذكر الله تعالى أنه بشر بإسماعيل قبل كونه فهو إسحاق لثبوته بالنص ولأنه لم تكن تحته هاجر أم إسماعيل فالمدعو ولد من سارة، وأجيب بأنه كفى هذه الآية دليلاً على أنه مبشر به أيضاً لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 112‏]‏ بعد استيفاء هذه القصة وتذييلها بما ذيل ظاهر الدلالة على أن هنالك بشارتين متغايرتين ثم عدم الذكر لا يدل على عدم الوجود ولا يلزم أن يكون طلب ولد من سارة ولا علم أنه عليه السلام دعا بذلك قبل أن وهبت هاجر منه لأنها أهديت إليه في حران قبل الوصول إلى الشام على أن البشارة بإسحاق كانت في الشام نصاً فظاهر هذه الآية أنها قبل الوصول إليها لأن البشارة عقيب الدعاء وكان قبل الوصول إلى الشام قاله في «الكشف»‏.‏

وبما رواه ابن جرير عن أبي كريب عن زيد بن حباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ الذبيح إسحاق ‏"‏

وتعقب بأن الحسن بن دينار متروك وشيخه منكر الحديث، وبما أخرج الديلمي في مسند الفردوس من طريق عبد الله بن ناجية عن محمد بن حرب النسائي عن عبد المؤمن بن عباد عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن داود سأل ربه مسألة فقال اجعلني مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فأوحى الله تعالى إليه إني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر وابتليت إسحاق بالذبح فصبر وابتليت يعقوب فصبر ‏"‏ وبما أخرجه الدارقطني‏.‏ والديلمي في مسند الفردوس من طريقه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم الكاتب عن الحسين بن فهم عن خلف بن سالم عن بهز بن أسد عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذبيح إسحاق ‏"‏ وبما أخرجه الطبراني في الأوسط‏.‏ وابن أبي حاتم في تفسيره من طريق الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأمتي ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لعجلت دعوتي إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له‏:‏ يا إسحاق سل تعطه قال‏:‏ أما والله لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان اللهم من مات لا يشرك بك شيئاً قد أحسن فاغفر له ‏"‏ وتعقب هذا بأن عبد الرحمن ضعيف، وقال ابن كثير الحديث غريب منكر وأخشى أن يكون فيه زيادة مدرجة وهي قوله‏:‏ إن الله تعالى لما فرج الله الخ وإن كان محفوظاً فالأشبه أن السياق عن إسماعيل وحرفوه بإسحاق إلى غير ذلك من الأخبار وفيها من الموقوف والضعيف والموضوع كثير، ومتى صح حديث مرفوع في أنه إسحاق قبلناه ووضعناه على العين والرأس‏.‏

والذاهبون إلى هذا القول يدعون صحة شيء منها في ذلك‏.‏ وأجيب عن بعض ما استدل به للأول بأن وقوع القصة بمكة غير مسلم بل كان ذلك بالشام وتعليق القرنين في الكعبة لا يدل على وقوعها بمكة لجواز أنهما نقلا من بلاد الشام إلى مكة فعلقا فيها، وعلى تسليم الوقوع بمكة لا مانع من أن يكون إبراهيم قد سار به من الشام إليها بل قد روي القول به، أخرج عبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» عن سعيد بن جبير قال‏:‏ لما رأى إبراهيم في المنام ذبح إسحاق سار به من منزله إلى المنحر بمنى مسيرة شهر في غداة واحدة فلما صرف عنه الذبح وأمر بذبح الكبش ذبحه ثم راح به رواحاً إلى منزله في عشية واحدة مسيرة شهر طويت له الأودية والجبال، وأمر الفخر لو سلم ليس بالاستدلال به كثير فخر، والخبر الذي فيه يا ابن الذبيحين غريب وفي إسناده من لا يعرف حاله وفيه ما هو ظاهر الدلالة على عدم صحته من قوله فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فإن عبد الله بإجماع أهل الإخبار لم يكن مولوداً عند حفر زمزم، وقصة نذر عبد المطلب ذبح أحد أولاده تروى بوجه آخر وهو أنه نذر الذبح إذا بلغ أولاده عشراً فلما بلغوها بولادة عبد الله كان ما كان‏.‏

وما شاع من خبر أنا ابن الذبيحين قال العراقي‏:‏ لم أقف عليه، والخبر السابق بعد ما عرف حاله لا يكفي لثبوته حديثاً فلا حاجة إلى تأويله بأنه أريد بالذبيحين فيه إسحاق وعبد الله بناءً على أن الأب قد يطلق على العم أو أريد بهما الذابحان وهما إبراهيم وعبد المطلب يحمل فعيل على معنى فاعل لا مفعول، وحمل هؤلاء ‏{‏وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 112‏]‏ على البشارة بنبوته وما تقدم على البشارة بأن يوجد قبل ولما كان التبشير هناك قبل الولادة والتسمية إنما تكون بعدها في الأغلب لم يسم هناك وسماه هنا لأنه بعد الولادة واستأنس للاتحاد بوصفه بكونه من الصالحين لأن مطلوبه كان ذلك فكأنه قيل له هذا الغلام الذي بشرت به أولاً هو ما طلبته بقولك‏:‏ ‏{‏رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 100‏]‏ وأنت تعلم أن حمله على البشارة بالنبوة خلاف الظاهر إذ كان الظاهر أن يقال لو أريد ذلك بشرناه بنبوته ونحوه‏.‏ وتقدير أن يوجد نبياً لا يدفعه كما لا يخفى وكذا وصفه بالصلاح الذي طلبه فتأمل‏.‏

ومن العلماء من رأى قوة الأدلة من الطرفين ولم يترجح شيء منها عنده فتوقف في التعيين كالجلال السيوطي عليه الرحمة فإنه قال في آخر رسالته السابقة‏:‏ كنت ملت إلى القول بأن الذبيح إسحاق في التفسير وأنا الآن متوقف عن ذلك، وقال بعضهم كما نقله الخفاجي‏:‏ إن في الدلالة على كونه إسحاق أدلة كثيرة وعليه جملة أهل الكتاب ولم ينقل في الحديث ما يعارضه فلعله وقع مرتين مرة بالشام لإسحاق ومرة بمكة لإسماعيل عليهما السلام، والتوقف عندي خير من هذا القول، والذي أميل أنا إليه أنه إسماعيل عليه السلام بناءً على أن ظاهر الآية يقتضيه وأنه المروى عن كثير من أئمة أهل البيت ولم أتيقن صحة حديث مرفوع يقتضي خلاف ذلك، وحال أهل الكتاب لا يخفى على ذوي الألباب‏.‏

البحث الثاني‏:‏ أنه استدل بما في القصة على جواز النسخ قبل الفعل وهو مذهب كثير من الأصوليين وخالف فيه المعتزلة والصيرفي، ووجه الاستدلال على ما قرره بعض الأجلة أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ولده بدليل قوله‏:‏

‏{‏افعل مَا تُؤمَرُ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏ ولأنه عليه السلام أقدم على الذبح وترويع الولد ولو لم يكن مأموراً به لكان ذلك ممتنعاً شرعاً وعادة ونسخ عنه قبل الفعل لأنه لم يفعل ولو كان ترك الفعل مع حضور الوقت لكان عاصيا‏.‏

واعترض عليه بانا لا نسلم أنه لو لم يفعل وقد حضر الوقت لكان عاصياً لجواز أن يكون الوقت موسعاً فيحصل التمكن فلا يعصى بالتأخير ثم ينسخ‏.‏ وأجيب أما أولاً فبأنه لو كان موسعاً لكان الوجوب متعلقاً بالمستقبل لأن الأمر باق عليه قطعاً فإذا نسخ فقد نسخ تعلق الوجوب بالمستقبل وهو المانع من النسخ عندهم فإنه يقولون‏:‏ إذا تعلق الوجوب بالمستقبل مع بقاء الأمر عليه امتنع رفع ذلك التعلق بالنهي عنه والإلزم توارد الأمر والنهي على شيء واحد وهو محال، فإذا جوزوا النسخ في الواجب الموسع في وقته قبل فعله مع أن الوجوب فيه تعلق بالمستقبل والأمر باق عليه فقد اعترفوا بجواز ما منعوه وهو المطلوب، وأما ثانياً فبأنه لو كان موسعا لأخر الفعل ولم يقدم على الذبح وترويع الولد عادة إما رجاء أن ينسخ عنه وإما رجاء أن يموت فيسقط عنه لعظم الأمر ومثله ما يؤخر عادة‏.‏ وتعقب هذا بأن عادة الأنبياء عليهم السلام المبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى على خلاف عادة أكثر الناس ولا تستبعد منهم خوارق العادات وإبراهيم من أجلهم قدراً سلمنا أن العادة ولو بالنسبة إلى الأنبياء تقتضي التأخير لكن من أين علم أنه عليه السلام لم يؤخر إلى آخر الوقت اتباعاً للعادة فالمعول عليه الجواب الأول وبه يتم الاستدلال، وربما دفعوه بوجوه أخر، منها أنه لم يؤمر بشيء وإنما توهم ذلك توهماً باراءة الرؤيا ولو سلم فلم يؤمر بالذبح إنما أمر بمقدماته من إخراج الولد وأخذه المدية وتله للجبين، وتعقب هذا بأنه ليس بشيء لما مر من قوله‏:‏ ‏{‏افعل مَا تُؤمَرُ‏}‏ وأقدامه على الذبح والترويع المحرم لولا الأمر كيف ويدل على خلافه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 106‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 107‏]‏ ولولا الأمر لما كان بلاء مبيناً ولما احتاج إلى الفداء، وكون الفداء عن ظنه أنه مأمور بالذبح لا يخفى حاله، وعلى أصل المعتزلة هو توريط لإبراهيم عليه السلام في الجهل بما يظهر أنه أمر وليس بأمر وذلك غير جائز، ومن لا يجوز الظن الفاسد على الأنبياء عليهم السلام فهذا عنده أدنى من لا شيء، ومنها أنا لا نسلم أنه لم يذبح بل روي أنه ذبح وكان كلما قطع شيئاً يلتحم عقيب القطع وأنه خلق صفيحة نحاس أو حديد تمنع الذبح، وتعقب بأن هذا لا يسمع، أما أولا فلأنه خلاف العادة والظاهر ولم ينقل نقلاً معتبراً‏.‏ وأجيب بأن الرواية سند للمنع والضعف لا ينافيه والاحتمال كاف في المقام ولا ريب في جوازه كإرسال الكبش من الجنة، وأما ثانياً فلأنه لو ذبح لما احتيج إلى الفداء، وكونه لأن الازهاق لم يحصل ليس بشيء، ولو منع الذبح بالصفيحة مع الأمر به لكان تكليفاً بالمحال وهو لا يجوزونه ثم قد نسخ عنه وإلا لأثم بتركه فيكون نسخاً قبل التمكن فهو لنا لا علينا‏.‏

ومن السادة الحنفية من قال‏:‏ ما نحن فيه ليس من النسخ لأنه رفع الحكم لا إلى بدل وهنا له بدل قائم مقامه كالفدية للصوم في حق الشيخ الفاني فعلم أنه لم يرفع حكم المأمور به‏.‏ وفي التلويح فإن قيل‏:‏ هب أن الخلف قام مقام الأصل لكنه استلزم حرمة الأصل أي ذبحه وتحريم الشيء بعد وجوبه نسخ لا محالة لرفع حكمه، قيل‏:‏ لا نسلم كونه نسخاً وإنما يلزم للو كان حكماً شرعياً وهو ممنوع فإن حرمة ذبح الولد ثابتة في الأصل فزالت بالوجوب ثم عادت بقيام الشاة الولد فلا تكون حكماً شرعياً حتى يكون ثبوتها نسخاً للوجوب انتهى، وتعقب بأن هذا بناء على ما تقرر من أن رفع الإباحة الأصلية ليس نسخاً أما على أنه نسخ كما التزمه بعض الحنفية إذ لا إباحة ولا تحريم إلا بشرع كما قرروه يكون رفع الحرمة الأصلية نسخاً وإذا كان رفعها نسخاً أيضاً يبقى الإيراد المذكور من غير جواب على ما قرر في «شرح التحرير»، هذا وتمام الكلام في حجة الفريقين مفصل في أصول الفقه وهذا المقدار كاف لغرض المفسر‏.‏

البحث الثالث‏:‏ أنه استدل أبو حنيفة بالقصة على أن لو نذر أن يذبح ولده فعليه شاة، ووافقه في ذلك محمد، ونقله الإمام القرطبي عن مالك‏.‏ وفي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار نذر أن يذبح ولده فعليه شاة لقصة الخليل عليه السلام وألغاه الثاني والشافعي كنذره قتله ونقل الجصاص أن نذر القتل كنذر الذبح، واعترض على الإمام بأنه نذر معصية وجاء لا نذر في معصية الله تعالى، وقال هو‏:‏ إن ذلك في شرع إبراهيم عليه السلام عبارة عن ذبح شاة ولم يثبت نسخه فليس معصية، وقال بعض الشافعية‏:‏ ليس في النظم الجليل ما يدل على أنه كان نذراً من إبراهيم عليه السلام حتى يستدل به‏.‏ وأجيب بأنه ورد في التفسير المؤثور أنه نذر ذلك وهو في حكم النص ولذا قيل له لما بلغ معه السعي‏:‏ أوف بنذرك، وبأنه إذا قامت الشاة مقام ما أوجبه الله تعالى عليه علم قيامها مقام ما يوجبه على نفسه بالطريق الأولى فيكون ثابتاً بدلالة النص، والانصاف أن مدرك الشافعي‏.‏ وأبي يوسف عليهما الرحمة أظهر وأقوى من مدرك الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة فتأمل‏.‏